فصل: الإنسان في القرآن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.الإنسان في القرآن:

233 - ذكر الله سبحانه وتعالى - خلق الإنسان من طين، وخلق الجن من نار، وقد بيِّنَ ذلك في أصل الخليقة، وقد ذكر الله تعالى في آيات وسور مختلفة، وكلها سيقت بالبيان المتناسق في موضعها وموضوعها، ولنذكر من غير اختيار آيات كريمات في موضع منها، قال تعالى في سورة البقرة: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ، وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ، وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ، فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة: 30 - 36].
وإن هذا النص الكريم يبيِّن ثلاث حقائق كانت مع الإنسان:
أولها: إنه أوتي استعدادًا لعلم الإشياء، أي: علم الكون وما فيه؛ لأنَّ الله تعالى سخرها له، ولا يتحقق ذلك التسخير إلَّا إذا أودع الله تعالى نفسه القدرة على العلم بها، ولذلك أنبأ الملائكة بأسمائها.
الثانية: إنَّ في طبيعة الإنسان الاستعداد للإغراء، ومن هذه الناحية جاء إبليس، فأغرى أبوي الإنسان بالأكل من الشجرة، وقد نهاهما الله تعالى، ولكنهما تحت تأثير ذلك الإغراء نسيا نهي الله، كما قال تعالى في وصف آدم أبي الخليفة: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115].
الحقيقة الثالثة: أن آدم نزل هذه الأرض، وقد تلا كلمات الله تعالى ليكون مثالًا للفضيلة، ويستمسك بها، ولكن كان معه في الأرض إبليس يغري ذرية آدم، ويغويها، كما قال تعالى عنه: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82، 83].
هذا بيان الله تعالى في ابتداء خلق الإنسان.
ولقد بيِّنَ سبحانه من بعد ذلك خلق الإنسان بالتناسل، فقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12 - 14].
ويقول سبحانه وتعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا، إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 2، 3].
ويقول تعالى في خلق النفس الإنسانية في الإنسانية: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7، 8].
ويقول سبحانه في القوة المدركة في الإنسان التي بها يكون التكليف والحساب والثواب والعقاب: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى، أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى، ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 78].
ويذكر سبحانه في كتابه الكريم أدوار الإنسان، فيقول - تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ، وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: 7 - 72].
وذكر الله خلق الإنسان وما عهد إليه من تكليفات في ثنايا القرآن الكريم، وقد ذكر الكون على أنه مسخَّر للإنسان يكشف منه أسرار الوجود التي يكون في طاقته أن يعلم بها، ويذكر خلق الإنسان وما أودعه الله تعالى من قوى ليعبد الله تعالى وحده.
ويذكر سبحانه وتعالى - أنه بمقتضى ذلك التكوين النفسي والعقلي وكل القوى التي خلقها سبحانه وتعالى - قد أخذ عليه عهدًا أن يكون ربانيًّا لله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ، وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 172 - 174].
وبذلك يبيِّن سبحانه أنّ المواهب الإنسانية التي خلقها الله في الإنسان عهد بينه وبين ربه، فإن استجاب لفطرته ارتفع، وإن خالف واتبع الشيطان هوى، وبيِّنَ سبحانه وتعالى - كيف يهوى، فيقول سبحانه بعد الآية السابقة:
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ، سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ، وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 175 - 179].
النفس الإنسانية في القرآن:
227 - إذا اتجه التالي للقرآن إلى دراسة النفس الإنسانية من خلال آياته، فإنه بلا ريب في مكان فسيح للدراسة، يعطي مجموعة من المعلومات الحقيقية المصورة للنفس في إيمانها وفي فجورها، ويمكن أن يجد الإنسان فيها قواعد علمية تكشف عن نواميس النفوس، وما تتأثَّر به، وما تتجه إليه في إيمانها وفي انحرافها، ولنتجه إلى بعض هذه المعاني في كتاب الله تعالى، ولا ندَّعي أننا نستطيع الإحاطة بها علمًا، ولا إحصاءها ولو بالتقريب، فإنَّ ذلك يحتاج إلى تفرغ لا قِبَل للأخذ به إلَّا أن يكون ممن يعنون بدراسته، أو من المتخصِّصين في علم النفس، ولنضرب بعض الأمثال، وكثير منها في قصص القرآن، وبعضها في شرح أحوال المؤمنين وأحوال الكافرين:
(أ) من هذه الأمثلة أنَّ النفس التي تسارع إلى الاعتقاد من غير دليل سابق، ولا فحص لقول لاحق من شأنها أن تقع في الخطأ، وإذا أصرت بعد البيان كانت في ضلال أصابها الصمم عن الحقائق، والعماء عنها، اقرأ قوله تعالى: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ، وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 101، 102].
إن الذي وهبه الله الهداية لفهم القرآن الكريم بعباراته وإشاراته تبدو بين يديه الحقيقتان الآتيتان:
أولاهما: إنَّه سبحانه وتعالى - يقرّر أنه ليس من شأن الذين سارعوا إلى التكذيب من غير أن يفحصوا ويدرسوا أن يؤمنوا؛ لأن الإيمان يقتضي قلبًا مذعنًا لما يأتي به الدليل، لا أن يكون سابقًا بالحكم قبل الدليل، وقد أشار سبحانه وتعالى - إلى ذلك بقوله تعالت كلماته: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} وواضح أن العلة في سد باب الإيمان هو مسارعتهم بالتكذيب من غير برهان، ومن يكذب بالبرهان لا يؤمن بما جاء به البرهان.
الحقيقة الثانية: إنَّ المسارعة بالتكذيب تؤدِّي إلى تغليق القلب عن أن يصل إليه النور، ويتوالى التكذيب من غير دراسة للأدلة يكون منع الهداية، ولذلك يقول الله تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 101] أي: بهذه الحال ومثلها يطبع الله تعالى على قلوب الكافرين، ويتحقق فيهم قول الله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 171].
(ب) ولننتقل إلى مثل آخر من كتاب الله، وإنَّه المعين الذي لا ينفد في دراسة النفس الإنسانية، ذلك المثل هو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: 155].
فهذا النص الكريم يبيِّن لنا قاعدة في النفس يسترشد بها المربِّي والمهذِّب، والذي حاول معالجة النفوس المريضة؛ إذ يعرف سبب المرض فيطلب له.
إذ يبيِّن الله سبحانه وتعالى - أن الذين أعرضوا عن الوقوف يوم التقى الجمعان سبب توليهم أنهم أصابتهم ذنوب، وأنَّ الذنب يسهل الذنب، والمخالفة تجر المخالفة، وأنه لأجل الطبِّ لهم لا بُدَّ أن يعالج الذنب الأول بالحمل على الإقلاع عنه، وقد يكون ظهور مغبَّته السيئة علاجًا له، ولذلك قال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ}، لأنهم أدركوا سوء ما كان لهم.
(ج) ومن هذه الأمثلة ما قرَّره الله تعالى من أنَّ النفس غير المؤمنة لا تنضبط، ولا تستقرّ على حال، والنعمة تبطرها وتطغيها، والنقمة توئسها وتشقيها، ولا ضبط ولا انضباط، ولا علاج لذلك إلَّا بالصبر، اقرأ قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ، وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ، إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 9 - 11].
وإن هذه الآية الكريمة تشير إلى أنَّ ذلك الفرح الطاغي في حالة، واليأس المميت في وقته مرض إنساني، وأنَّ علاجه الصبر؛ لأنَّ الصبر ضبط النفس، فلا تنزعج للألم، ولا تطغى بالنعم.
(د) ولقد بيِّنَ الله تعالى أنَّ سلوك غير الحق هو اتِّبَاع للظنّ غير الناشئ عن دليل، بل عن الهوى، وقد قال تعالى في ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى، وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 27، 28].
فهذا النص الكريم يبيِّن مرض النفس التي تضل، ويذهب بها الضلال إلى متاهات من الباطل، وذلك المرض هو الوهم، فهم يتوهَّمون ثم يهوون ثم يظنون، وليس عندهم دليل يكون علمًا، بل عندهم أوهام وظنون، وإن دارس علم النفس التربوي يجد فيه بابًا من أبواب التربية العقلية بأن يباعد بين الناشئة والأوهام.
(هـ) ومن الأمثلة لبيان أحوال النفوس بيان أحوال النفوس التي لا تفكِّر إلَّا في دائرة نفعها أو ضرّها، ومن شأن هذه النفوس أن تكون أثرة متقلبة، لا تذعن للحق ولكن تذعن لنفعها وضررها.
اقرأ قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يونس: 12].
وهذا تصوير للنفس التي فقدت الإيمان، وحرمت الخير، ولا تفكر إلَّا في محيطها، وهي بلا ريب غير الذين قال الله تعالى فيهم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].
(و) ولنكرِّر مثلًا ذكرناه فيما تلونا من قبل، ونذكره هنا من ناحية البيان النفسي، وهو مثل ولدي آدم، فالله تعالى يقول: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 27 - 32].
هذه الآيات البينات فيها كشف عن النفس المؤمنة المطمئنة الراضية، وكشف عن النفس الحاسدة الحاقدة:
(أ) وهي تدل على أمور نفسية تصوّر مصدر الشر والخير، فالنفس المؤمنة تعرف الأمور على وجهها، وتدرك الحق وما أوجبه، فهي ترد سبب قبول القربان إلى التقوى والخوف من الله.
(ب) والنفس التقية هي التي تمتلئ بذكر الله وتستشعر خوفه دائمًا، وأنَّ الاعتداء إنما يكون حيث يختفي الخوف ويظهر الطغيان، ولذلك علّل عدم رد الاعتداء الذي بادره به أخوه بأنه يخاف الله رب العالمين، وأنَّ القتل إنما هو جريمة في حق من خلقهم الله تعالى، وهو ربهم.
(ج) وتشير الآية إلى النفس منطوية على الخير، وأنَّ الشر عارض لها، ولذا رد المؤمن التقي قول أخيه وتهديده بالقتل بقوله: {مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ}، وفي هذه إشارة إلى أنَّ النفس التي لم تدنس بشر ليس من شأنها أن تبسط يدها بالقتل.
(د) والآيات تدل على أنَّ الحسد هو أساس الاعتداء، فلو انخلع من القلوب ما كان شر ولا اعتداء في الأرض.
(هـ) وتدل الآيات أيضًا على أنَّ الاعتداء بالأذى ليس هو الأصل بالنفس الإنسانية، فهو عندما اتجه إلى قتل أخيه عالج نفسه ليحملها على مطاردته في قتله، ولذا عبَّر الله سبحانه وتعالى - عن ذلك بقوله تعالت كلماته: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}؛ لأنه خسر أخاه وخسر نفسه، فأفسدها.
(و) وتدل ثالثًا على أن رؤية المعتدى عليه، والاعتداء قائم يبعث على الندم، والآيات من بعد ذلك تبيِّن أنَّ أساس الكثير من الجرائم هو الحسد، فلو اجتثَّ من النفوس ما كان اعتداء، ولكن الله تعالى يبلو به الناس ليعلم الخير والشر.
ولا شكّ أن الدارس للنفس الإنسانية يجد في القرآن معينًا لا ينضب، ولو أن الناس عكفوا عليه لوجدوا فيه أعظم مصدر للدراسات النفسية والاجتماعية.